الرئيسية / رسائل الفطرية / التعليم والإعلام والاقتصاد

التعليم والإعلام والاقتصاد

والناظر في قوى العمران البشري، المتحكمة في نسيجه الاجتماعي العام، يجد أنها ترجع إلى أربعة أسس هي: التعليم، والإعلام، والاقتصاد، والسياسة. إلا أنها ليست جميعها على تَسَاوٍ فيما بينها. بل تتميز الأسس الثلاثة الأُوَلُ (التعليم، والإعلام، والاقتصاد) بكونها عملا بنيويا تحتيا على المستوى القاعدي. بينما يتميز الأساس السياسي بكونه عملا فوقيا. وبينه وبين الثلاثة المذكورة علاقة جدلية قوية جداً، أخذاً وعطاءً. ومن هنا كانت الأولوية الدعوية في المنهاج الفطري – باعتباره دعوة إسلامية تحتكم إلى سنة التدرج – إنما هي للعمل البنيوي التحتي، لكن طبعا دون إغفال أهمية العمل الفوقي في علاقته الجدلية بالآخر.

ولذلك وجب أن تكون الأُسُسُ الثلاثةُ الأُوَلُ هي الميادين الرئيسة للعمل الدعوي في علاقته بالإنسان المتفاعل. إذْ من سيطر عليها صنع السياسة، ومن سيطرت عليه صنعته السياسة!

وأما محاولة صناعة السياسة بغير السيطرة عليها كليا أو جزئيا، أو على الأقل الحضور الميداني فيها؛ فهو ضرب من العبث. خاصة في الظروف العالمية والمحلية المعاصرة! والعمل فيها اليوم إنما يجب أن يكون من خلال البرامج الدعوية أساسا. فالعمل الدعوي هنا: هو العمل البنيوي التحتي، العمل الذي يشتغل في الميدان العملي في ظروف سيطرة الآخر عليه! وقد يختلف ذلك نسبيا على حسب طبيعة الميدان وإنسانه.

فتدخل الدعوة معركة التعليم بما هو وظيفة نبوية رئيسة! وذلك من خلال الاشتغال بإنسان التعليم أساساً، من التلميذ إلى الْمُدَرِّسِ، إلى أولياء التلاميذ وجمعياتهم، إلى المؤسسة التعليمية برمتها، المكلفة بهذا القطاع الحيوي الخطير، جهويا ومركزيا. تدخل ذلك كله داعيةً ومُدافِعةً ومُنافِسَةً! وتشتغل فيه وبه، ممارِسةً ومُنْتِجَةً! لكن على المستوى القاعدي دائما. وفي ذلك ما فيه من المكاسب الكبرى للإسلام ما لا يدانيه شيء آخر على الإطلاق!

كما تدخل الدعوة معركة الإعلام بما هو ميدان للبلاغ الدعوي ((هَـذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ!))(إبراهيم: ((52). والإعلام هو ربيب التعليم إذ هو عمل في الإنسان أيضا، وصناعة لعقله ووجدانه، إصلاحا أو إفسادا! ومن هنا أهميته وخطورته على المستوى الدعوي. ولذلك فهو مجال وجب أن تدخله الدعوة على الوزان الأول أيضا، أعني: داعيةً ومُدافِعةً ومُنافِسَةً! وتشتغل فيه وبه، ممارِسةً ومُنْتِجَةً!

فوسائل الإعلام اليوم رغم سيطرة التوجهات اللادينية على كثير من مواقعها الاستراتيجية، فإنه من الواجب على أصحاب العمل الإسلامي التدافع حول اعتلاء منابرها، لرفع كلمة الله، والصدع بدعوة الحق! ولا ننسى أن الوسائل المتاحة من شبكات الأنترنيت والأشرطة السمعية والبصرية قد يبارك الله فيها، فتحرز بها الدعوة من المكاسب ما لا يحرزه المتغلب بفضائياته العظمى! فالمعركة الدعوية إذا تحقق أصحابها بإخلاصهم لله، تَوَلاَّهَا اللهُ جل علاه، وبارك فيها، وجعل قليلها كثيرا.

ثم تدخل الدعوة معركة الاقتصاد أيضا، داعيةً ومُدافِعةً ومُنافِسَةً! وتشتغل فيه وبه، ممارِسةً ومُنْتِجَةً!

وتخوض معركته تربيةً للمستهلك أولا، ثم دعوةً وتكويناً للمستثمر والمنتج ثانيا. لإشاعة قيم الإسلام الاستهلاكية والإنتاجية على السواء، في اتجاه أفق السيطرة الدعوية الجزية أو الكلية على الإنتاج الرئيسي وعلى السوق. لكن دائما على مستوى العمل التربوي القاعدي، المشتغل بصناعة رجل الاقتصاد المؤمن، ورجل المال المؤمن، ورجل الأعمال المؤمن، أكثر من الاشتغال بسياسة الاقتصاد العامة، فإنما هذه تكون بذاك ولا عكس! الرهان اليوم على إصلاح “إنسان المال”، الآخذ والمعطي سواء، استهلاكاً، وإنتاجاً؛ قصد الإسهام في توجيه دفة التدافع المالي شيئا فشيئا، على المستوى المحلي ثم العالمي عندما يأذن الله.

وأما العمل السياسي فَيُكْتَفَى فيه بمخاطبة إنسانه بكلمات الله، بعمقها الغيبي وامتدادها الأخروي، دعوةً وتوجيها. دون عملٍ ولا قصدٍ إلى منافسته في مغانمه ومناصبه، ولا حتى العمل بما يشعره بذلك! من الدخول في منافسات انتخابية ضيقة أو تحالفات حزبية خاسرة، تؤدي في النهاية إلى محاصرة الدعوة ورجالها. إذ المقصود في الدعوة الفطرية – في هذا المجال – إنما هو “الإنسان السياسي” بشتى أطيافه، من “اليمين” إلى “اليسار”، ومن “المعارضة” إلى “الأغلبية”، ومن الميداني إلى الإداري. كل أولئك جميعا موضوع للعمل الدعوي؛ عسى أن يستعيد فطريته!

نعم، تعمل الفطرية في دعوتها للإنسان السياسي على تغليب فضله على نقصه، ونصرة خيره على شره، وحقه على باطله، ثم دفع كيده بإخلاصه! لكن دون أن تكون هي طرفا في صراع الحقائب والمناصب! بل الرهان على أن يستجيب كل من موقعه لكلمات الله! أوليس كلهم جميعا بني آدم؟ أليسوا معنيين بخطاب القرآن وبدعوة الإسلام؟ أليسوا مسلمين – مهما كانت أحوالهم بين الصلاح والفساد – تؤرقهم حقيقة الموت، لو أوقفهم الخطاب الدعوي على مفهومها الإسلامي، وما يترتب عليه من الحقائق الإيمانية والمآلات الأخروية؟

إنني على يقين بأن الدعوة الإسلامية بصيغتها الفطرية ستجد مكانها بين أولئك جميعا، وتصنع تيارها من كل الأطياف؛ لأن السياسة الحزبية بصورتها الحالية إنما هي صنيعة بشرية “براجماتية” أشبه ما تكون بالطائفية؛ لخلوها في الغالب من المصالح العامة الحقيقية؛ اللهم إلا ما كان شعارا وكفى! فمصالحها إنما هي لبعض الناس لا لكل الناس! بينما الدين هو كله لله! وما كان كله لله عاد فضلُه على كل الناس! (فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ. ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ. وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ!)

فريد الأنصاري ، كتاب الفطرية ص 41-44 الطبعة الأولى دار السلام