الرئيسية / الدراسات القرآنية / أصول الذكر الثلاث : تحصينا وتخلقا وبلاغا

أصول الذكر الثلاث : تحصينا وتخلقا وبلاغا

يمتد مفهوم الذكر إلى أصل خلق الإنسان: آدم عليه السلام، لما عهد إليه الله سبحانه أن الشيطان له عدو، نسي العهد، والنسيان ضد الذكر كما في لسان العرب، قال سبحانه { وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَىٰ ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } طه 115. ثم أخد العهد على ذريته في عالم الذر حتى يتذكروا، {وإذ اخذ ربك من بني ادم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا ان تقولوا يوم القيامة انا كنا عن هذا غافلين}الأعراف 172. ومن ثم فُطر الانسان على تذكر العهد الأول، وأنظر الله تعالى الشيطانَ إلى يوم البعث يحارب الإنسان ويقف له على الصراط المستقيم، ينسيه العهد، ورحمة من رب العالمين يرسل أنبياءه ورسله لهذا الانسان لعله يذكر فتنفعه الذكرى، ومن هنا نفهم قوله سبحانه {قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما ياتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا يضل ولا يشقى-123- ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى-124- قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا-125-قال كذلك أتتك ءاياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى} طه، هوالنسيان إذا، أي عدم الذكر، أو الغفلة، أصل مشكل الانسان، فإذا تذكر علم أن لوجوده شأنا عظيما في هذا الكون فيتحول عنده بل فيه كل شيء: وُجدانه تفكيره أولوياته مقاصده أحلامه بل سيمتد التحول إلى محيطه فالإخوان غير الإخوان والدار غير الدار والأهل غير الأهل إنه تحول عظيم لا يد للإنسان فيه {فأنشأناه خلقا ءاخر فتبارك الله أحسن الخالقين} الذكر أو التذكر يجدب الإنسان إلى أصله الأول، الفطرة التي فطر الله الناس عليها، بعدما اجتالته شيطانين الانس والجن وعاتت فيه فسادا فغيرت من خلقه وذهبت به بعيدا عن ربه تتقاذفه أمواج الدنيا حتى أنسته ذكر ربه.
عندما يرضى الانسان بالدنيا ويستسلم لإغراءاتها يجرفه التيار بعيدا في غمرتها ومرتكض أهوالها فيثاقل إلى الارض وينسى ذكر ربه، فيحتاج إلى أن يتخفف من أثقالها حتى يسكن إلى نفسه يحدثها عن العهد الأول فيتذكر وإذا تذكر علم حينها أن عليه السباحة ضد التيار لأن القصد تحول {منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة} والواو تقتضي المغايرة، فالقصدان ضدان ولا منزلة بين المنزلتين
من هنا يبدأ العلم بالقصد والمراد ومن هنا يبدأ المتذكر السير الحثيث إلى مولاه، النفور تفلتا من جدب الأرض يحتاج طاقة عظيمة، تستمدها من عالم الروح، وصلتك بذلك العالم هي صلاتك {إن ناشئة الليل هي أشد وطءا وأقوم قيلا} ينطلق المتذكر إذا من محطة الصلاة عروجا بقلبه إلى حياة الروح، وإنه لإحساس جميل عندما تبدأ الحياة تسري في قلبك، إحساس لا يمكن وصفه بل عليك أن تذوقه وحسب، عليك إذا خوض التجربة والدخول في غمارها، ما أستطيع وصفه لك أنك ستكتشف أن قد أصبحت تبصر ما لم تكن تبصره وما لا يبصره الآخرون ترى الأمور بأحجامها الحقيقية كما هي في الكتاب، فتكتشف كم كنت غافلا، ضالا تائها، كم كنت بعيدا عن مولاك، ثم تنظر إلى ما حولك فترى الغافلين كثر والغرقى كثر، حتى إنه ليراودك الشك وتسائل نفسك هل حقا أنا الواحد على الجادة والكثرة على الضلال؟.. تمكث مليا تتذكر الآيات وتنظر في سِيَرِ الأولين فتكتشف حقا أن السائرين على هذا الطريق قليل ما هم، ثلة من الاولين وقليل من الآخرين، فيطمئن قلبك ثم تستأنف المسير متأوها ومتحسرا عليهم مرددا قوله سبحانه {ياحسرة على العباد}
وأنت تسير في الطريق، وكي تبقى على العهد، تحتاج روحك إلى زاد من الذكر حتى وأنت غارق في عالم أشيائك، تدخل بيتك ذاكرا وتأكل ذاكرا وتنام ذاكرا وتستيقظ ذاكرا وتخرج ذاكرا، وهلم جرا…، ما من حركة أو سكون إلا وتذكر فيه الله ربك، وقد كفانا رسول الله كلفة البحث عن صيغ الذكر فأنشأ لنا لكل حال صيغته، ولا ضير فهو أعلم الخلق بالله وقد أوتي جوامع الكلم، قالت عائشة –رض- “كان رسول الله –ص- يذكر الله في كل أحواله” وهذا ما يصطلح عليه بذكر الأحوال، وحاجة المسلم إلى هذا الذكر تنزل منزلة الضرورة وقاية له من وساوس الشيطان وتحصينا لحياته مما يعرفه الناس من أمراض نفسية واضطرابات أسرية وقلق ووساوس وما إلى ذلك مما يقع في حياة الغافلين، هذا أصل.
والأصل الثاني حين يخرج العبد من عالم أشيائه الذي عاش فيه غريبا لا يكاد يعرفه فيه أحد حتى أنه ينعث بالجنون أحيانا لما لسلوكه من تمايز شديد عن سلوك العامة، يدعوه الرب إلى خلوة روحية يذْكره ويذْكره {فاصبر على ما يقولون، وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب} يجلس إلى محراب الذكر في تلك الأوقات التي اختارها له الرب وهي أوقات يغفل عنها كثير من الناس، جميلة في سكونها الذي يحكي سكون الكون في خضوعه وطوعه، جميلة في نسيمها الذي يتنفسه الصبح نقيا طاهرا يهدي عبقه للسابقين الأولين، وقد سبق المفردون، جميلة في نورها الذي يداعب الأجفان رويدا رويدا حتى تألف العين النور فلا يباغتها حره الذي يكون فيه هلاكها، الجمال والسناء يحوطان المكان إيذانا بالوصل الذي يسعى بالعبد إلى التعرف إلى مولاه تذللا وتقربا، وإن للوصل إيلاما لطيفا وإن إيلامه تقشعر منه الجلود، إنها لحظة المعرفة، ويا لهول ما عرفت!، يخونك كل تعبير فتسلم نفسك إلى وابل من العبرات، عل وجدانك يستوعب ما وجد.. هذا زمن البكاء، قالها العارف بالله فتح الله كولن، لم أع ساعتها سر تلك الكلمات، وأنا اليوم أكتشف السر، علينا أن نصمت طويلا ونطلق العنان للقلب يذكر مولاه، عظمته ونعماءه وآلاءه، حمدا وشكرا… “اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك فلك الحمد ولك الشكر”، “يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك” “رضيت بالله ربا وبالاسلام دينا وبسيدنا محمد نبيا ورسولا”،…كلمات نورانية تحلق بك بعيدا، تخرجك من الجزئي الفاني إلى الكلي المطلق، هذا الصباح جُعل لك والناس سرقهم النوم، ولك كذلك المساء حيث الدنيا تسرق الناس: بكرة وأصيلا، إنك إذ تداوم على هذه الأحوال تصبح من المصطفين الأخيار، ويختارك الرب سبحانه -لا الناس- للخدمة في مقام العبدية، وياله من مقام، ويالها من وظيفة غفل عنها كثير من الناس، فتصبح من الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، وآيتك أن يكتب لك القبول في الارض، وآيتك أن تتحول كلماتك في الناس أفعالا ولو بعد حين.
ثم تسير وتسير فتجد في دربك رفقة متحلقين حول بعض الآيات، تسلم ثم تسأل ما أجلسكم فيردون: جلسنا نذكر الله، فيرفل قلبك من شدة الفرح ثم تستحلفهم للتأكد لا غير: ءالله ما أجلسكم إلا ذاك؟ فيجيبون: والله ما أجلسنا إلا ذاك، فتجلس إليهم تسمع كلام الله وتتدارسونه جميعا.
أن تحلق وحدك في سماء المعرفة فأنت تبني صرح نفسك وتشيد عمرانها، لكن عندما تجلس إلى إخوانك تذكرون كلام الله، وما أدراك ما كلام الله، فإنك بدأت معهم في في بناء صرح روح الأمة الذي ينسج ويصل وشائج المحبة والايخاء تأليفا وتقريبا {وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الارض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم}الأنفال 63، تنمحي الفوارق وتذوب المشاكل وتتبخر الاكراهات وتتنزل الرحمات وتتغير الأحوال بقدرة القادر سبحانه.
الاجتماع على ذكر الله ليس كما يتصوره كثير من الناس اجتماع تتلى فيه أوراد مخصوصة جعلت للفد لا للجماعة، ولذلك أنكر عبد الله بن مسعود-رض- على بعض القوم اجتماعهم على مثل هذه الأوراد فقال “تالله لقد جئتم ببدعة ظلما، ولقد فقتم أصحاب محمد –ص- علما!” أورده الشيخ أحمد زروق في عدة المريد وقال: ذكره ابن الحاج في المدخل. وهذا المسلك ضل فيه كثير من الناس وانحرفوا انحرافا شديدا. الاجتماع على ذكر الله هو الاجتماع على الآيات تدبرا وتدارسا وتخلقا، {ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون} أي الكتاب اقتضاء “وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم..” اجتماع وتلاوة وتدارس، هذه هي مجالس الذكر أو مجالس القرءان والمجتمعون هم جلساء الملائكة الذين تتنزل عليهم السكينة وتغشاهم الرحمة ويذكرهم الله فيمن عنده.
يبدأ صدى هذه المجالس يسمع في كل مكان، وكأنها خلايا نحل تصدر أزيزها أثيرا موسيقيا يقع على أوثار القلوب فيجدبها إليها جدبا، فتجد شرابا مختلفا ألوانه فيه غذاء وشفاء، الجميع يمتح من هذا المعين العذب الحلو المذاق، وبعد زمن يسير،-تسألني متى هو؟.. عسى أن يكون قريبا-، يرتفع البلاء ويبرأ الداء ويعم الرخاء، حتى أولئك الذين لم يشربوا من هذا المعين تعافوا ببركة تلك المجالس فهم الجلساء الذين لا يشقى بهم جليسهم.
هذا هو مقام الذكر إذا، وهذه أصوله الثلاث التي هي مسالك العبد إلى الله تحصينا وتخلقا وبلاغا، فيا أيها الحيارى الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، هلموا فالطريق من هنا سالك: من القرءان إلى العمران.